في عالمٍ يتسارع خطاه نحو تبني الذكاء الاصطناعي في كل زاوية من زواياه، تضرب أزمة غير مرئية صناعة الإعلام في الصميم. هي 'أزمة القيمة'، التي لا تتعلق بالأرقام والإحصائيات بقدر ما تدور حول جوهر المعرفة في عصر تهيمن عليه منصات التكنولوجيا العملاقة. إن اعتماد العديد من هذه المنصات على تقديم إجابات نهائية مختزلة، بلا أصل معرفي واضح، يهدد بالتأكيد العمود الفقري للمحتوى الإعلامي المستقل والموثوق. ما دلالة هذا التوجه على الصحافة؟ وما هو مصير الباحث عن الحقيقة في خضم هذا السباق؟
هل الإجابات المختزلة تمثل الضربة القاضية للمحتوى المستقل؟
في بداية التسعينات، عرف العالم الإنترنت كمنارة تقدم المعرفة بحرية لم يسبق لها مثيل. الآن، وبعد ثلاثة عقود من الزمن، نجد أن هذه المنارة تتضاءل شيئاً فشيئاً تحت ظل الإجابات المختزلة، تلك التي تقدمها خوارزميات محركات البحث الكبرى. تُختزل الجهود الصحفية الجسيمة، التي تهدف للكشف عن الحقائق بعناية وموضوعية، في حزم مختصرة تحيطها الكلمات بلا تنهيد. تكمن المشكلة هنا في أن هذه الإجابات تفتقد للعمق التفصيلي، الأمر الذي يضعف من جودة المعلومة ويُفقدها معناها الكامل.
الأسوأ من ذلك أن هذه الموجزات تقدم نفسها كحقائق نهائية، وهو ما ينعكس بصورة مباشرة على عقلية المستهلك الذي يعتمد على هذه المصادر. بحيث يُضلل، دون إدراكه، في تصوراته للأحداث بناءً على صورة واحدة لا تمثل إلا قمة جبل الجليد من الحقيقية. لقد أصبح الصحافي، الذي كان يوماً ما بطل الحقيقة في العصر الذهبي للصحافة، ضحية لهذا التحول المكاني.
على الصعيد الأخلاقي، تكمن المسألة في تجنب الاعتراف بالمصادر الأصلية للبحث والتحرير. تبتكر الشركات التقنية أدوات تحقق لها أرباحاً طائلة، بينما يتجرع الصحافيون وناشرو المحتوى الحسرة بسبب عدم تقدير جهودهم الفكرية والمادية. هذه الإشكالية ليست مسألة تقنية بحتة، بل هي مسألة أخلاقية تتطلب وقفة تأملية جادة.
من جهة أخرى، فإن تغييب المصدر الأصلي يهدد بمحو الأثر الثقافي للمعرفة الإنسانية التاريخية المضمنة في الأعمال الأصلية. فالمعرفة ليست مجرد معلومات؛ بل هي جسد حي ينمو ويتفاعل مع تطورات العصر وتغيراته.
إن هذه الأزمة تدعو إلى تساؤل ضروري: هل يمكن للمحتوى المستقل أن يجد له مكاناً في هذا العالم الجديد؟ أم أن عليه التكيف مع طوفان المعلومات الموجزة، والبحث عن طرق جديدة للإبقاء على مصداقيته وأصالته أمام القارئ الباحث عن العمق والموضوعية.
كيف تهدد أزمة القيمة مستقبل البحث والمعرفة؟
لو توقفنا قليلاً لنسترجع مفهوم البحث الأكاديمي أو الصحفي، سنجد أن المعرفة في صلبها تتطلب تفاعلاً مستمراً وتفكيكاً وتحليلاً يلامس أبعاداً متعددة للحقيقة. لكن حينما تتحول نتائج البحث إلى مجرد ملخصات بسيطة، تفقد هذه العملية سيرتها التاريخية كأداة للمعرفة والتقدم.
هذا التحول يزرع في الأذهان تصوراً مفاده أن المعلومات السهلة الوصول تعادل في جودتها المعلومات المطولة والمفصلة. لكن الفرق شاسع، فالأولى تقدم صورة سطحية تغفل العمق والإدراك الشامل، بينما الثانية تغوص لتوهب القارئ القدرة على فهم حقيقي وإلمام متعدد الأوجه.
في ظل هذه الأزمة، تتداخل الأعمال الإعلامية التقليدية مع التسويق الرقمي بطريقة قد تُفقد معها المهنة الصحفية قيمها التقليدية. بات النموذج الاقتصادي الحالي يعتمد على “النقرات” وليس على جودة المحتوى أو حسن تقديمه. ومع هذه النقرات، تختبئ الحقائق في زوايا الظلام لا ترى النور.
لا يمكننا إغفال المخاطر التي تواجه العقلية المعرفية للمجتمع في عصر تشتت فيه المعلومات. فالمعرفة لا تستقي قوتها من ترديد الإجابات بل من البحث عن السؤال العميق وراء كل جواب، والسعي للإجابة عليه.
تستلزم هذه الأزمة إعادة تفسير جوهر التعليم الإعلامي لمعاصرة هذه التحولات؛ يجب أن يكون قادراً على إيجاد التوازن بين المبادئ الصحفية الأصيلة وبين الحاجات المستجدة لعصر التكنولوجيا الرقمية.
تقنيات البحث في مهب الريح: ما هو مستقبل العلاقة بين عمالقة التكنولوجيا وناشري المحتوى؟
إحدى الإشكاليات الجلية في المشهد الحالي هي أن منصات التكنولوجيا العملاقة تستمر في فرض سيطرتها غير المعترف بها على اقتصاد المحتوى دون تحقيق توازن مناسب في العلاقة مع ناشريه. هذه الديناميكية تجعل هذه المنصات تجمع الأرباح من قيمة محتويات لا تمتلكها دون أن تقدم تعويضاً عادلاً لمن أنتجها.
إن هذا النموذج يضع العلاقة بين صناعة التقنية وصناعة المحتوى في مرحلة حرجة، تتطلب العمل على وضع خطط جديدة لضمان حماية الحقوق الفكرية للمنتجين الحقيقيين للمحتوى. يتوجب العمل على وضع قوانين تحفظ القيمة المعنوية والمادية للمحتوى الأصلي.
كذلك، تُبرز هذه القضية أهمية تكثيف جهد المجتمع الدولي في تنظيم العلاقات الاقتصادية بين الأطراف الفاعلة في السوق الرقمي. بدءاً من تحفيز الاتفاقيات الدولية الكفيلة بالحفاظ على حقوق التأليف والنشر والاعتراف بالمصدر، إلى تعزيز المنافسة العادلة بين المنصات.
يتزايد هنا دور المؤسسات الإعلامية الكبرى في الدفاع عن محرريها وصحفييها، وهي تحتاج لتبني أشكال جديدة من التعاون مع المنصات الكبرى بما يحقق لها الفائدة المادية ويحمي حقوقها الفكرية في ذات الوقت.
يجب على الأطراف جميعاً أن تُدرك أن أي استخدام للمحتوى، ولو كان بشكل مختصر، ينبغي أن يرافقه إدراك للجهود المستثمرة فيه، وهذا لن يتحقق إلا بإعادة التفكير في كيفية تفاعل الأطراف الاقتصادية داخل منظومة المعرفة الرقمية.
خلاصة القول
لا شك في أن التحدي الذي يواجه صناعة الإعلام في العصر الرقمي الحالي يتطلب النظر إليه بمزيد من الجدية والتفكر. أمام هذه الديناميات المعقدة لاقتصاد المحتوى، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن للصحافة أن تحفظ قيمتها الأصيلة في بيئة شديدة التغير؟ ربما علينا جميعاً أن نسعى لتحقيق توازن جديد، حيث يفضي التعاون بين عمالقة التقنية وناشري المحتوى إلى حفظ المعرفة وتقديمها بصورتها الموثوقة والثرية، دون أن تُختزل إلى مجرد ملخصات عابرة تفتقر للدفء الفكري والثقافي.